عبدالله أكبر ٢٠٢٥ أكتوبر
يُعَدُّ التحكيم التجاري، على المستويين المحلي والدولي، من أبرز الوسائل البديلة لتسوية المنازعات التجارية بعيدًا عن أروقة المحاكم الوطنية. ويعود تميزه إلى ما يوفره من مرونة وسرية وفعالية، فضلاً عن توافقه مع طبيعة العلاقات التجارية التي تتسم بالسرعة والتغير المستمر. وقد أفرزت التجربة العملية منظومة متكاملة من القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية والمؤسسات المتخصصة التي جعلت من التحكيم الخيار الأمثل لأطراف المعاملات التجارية عبر الحدود.
وتنبع فعالية التحكيم التجاري الدولي من منظومة مترابطة تقوم على خمسة عناصر: صياغة شروط تحكيم دقيقة، وجود قواعد إجرائية واضحة، توافر مؤسسات تحكيم متخصصة، قوانين وطنية داعمة، ومعاهدات دولية تكفل الاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها. وتفوق التحكيم على القضاء الوطني يرجع إلى مرونته وسرعته، في مقابل ما يعانيه القضاء أحيانا من تعقيدات إجرائية، وصعوبات في الاختصاص النوعي، وتعدد درجات التقاضي. وعلى الصعيد العملي، يتمايز التحكيم عن القضاء الوطني بغياب التعقيدات المرتبطة بالقضاء. فلا توجد قاعات انتظار أو جلسات متباعدة، وإنما إجراءات مرنة يحددها الأطراف أنفسهم، ويعقد التحكيم في قاعة تضم محكمًا أو أكثر من اختيارهم. وهذا يتيح لهم ضبط القواعد والإجراءات والزمان والمكان وفق ما يخدم مصلحتهم، في انسجام تام مع متطلبات التجارة الحديثة.
ويمتاز التحكيم بمرونة تمنح الأطراف حرية واسعة في اختيار هيئة التحكيم (Arbitral Tribunal) سواء من محكم واحد أو ثلاثة، إضافة إلى تحديد القانون الإجرائي والقانون الموضوعي المطبقين. فـالقانون الإجرائي للتحكيم (Procedural Rules) يختص بتنظيم إجراءات السير في المنازعة من الناحية الشكلية، بينما يحدد القانون الموضوعي (Substantive Law) القواعد التي تحكم موضوع النزاع ذاته. ومن مزايا هذه الحرية أن للأطراف مثلاً أن يختاروا أحكام الشريعة الإسلامية كقانون موضوعي لحسم النزاع، وفي الوقت ذاته يعتمدوا قواعد غرفة التجارة الدولية (ICC) كقانون إجرائي، مع اختيار لندن مقرًا للتحكيم. هذا التنوع يعكس مرونة التحكيم وملاءمته لمختلف السياقات القانونية والتجارية.
ومن خلال استعراض مظاهر حرية الأطراف في تحديد القوانين، يثور سؤال حول مدى ارتباط التحكيم بالقانون الوطني لمكان إجرائه، وفي هذا الإطار يبرز مبدأ إلغاء التمركز (Delocalization)، الذي يعد من السمات الجوهرية للتحكيم الدولي. فهو يحرره من الارتباط بالقانون الإجرائي لمكان التحكيم (Lex Loci) ويجعله أكثر استقلالية عن الولاية القضائية الوطنية، بما يعزز طبيعته الدولية ويمنحه قدرة على تجاوز القيود المحلية.
ومن المسائل الجوهرية في اتفاق التحكيم -والتي تبرز مرونة عالية في أدوات إثباته في عدد من القوانين- مسألة الكتابة. فمعظم القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية تعتبرها شرطًا أساسيًا لصحة الاتفاق. ومع ذلك، تبنت بعض التشريعات مقاربة أكثر مرونة؛ إذ اعتبر قانون التحكيم الإنجليزي لعام 1996 (section 5(6) أن الاتفاق الشفهي يمكن أن يعد اتفاقًا مكتوبًا ضمنيًا في ظروف استثنائية، مثل حالات إنقاذ السفن التجارية الطارئة، حيث لا يتاح غالبا إبرام عقود مكتوبة فورية، ولذا تعاملت المحاكم البريطانية مع هذه المسألة بمرونة واعتبرت أن الاتفاق الشفهي والضمني يمكن أن يرقى إلى اتفاق مكتوب إذا أثبت لاحقا بالرسائل أو الأعراف التجارية ( trade usage (، أما القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي (الأونسيترال) فقد وسع نطاق مفهوم الكتابة ليشمل وسائل الاتصال الحديثة كالبريد الإلكتروني والفاكس متى تضمنا توقيعًا إلكترونيًا معتمدًا. وبدوره، تبنى نظام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي م/34 لعام 1433هـ هذا الاتجاه في مادته (9/3)، إذ نص على أن المراسلات الإلكترونية والمحررات المتبادلة بين الأطراف تعد اتفاقًا مكتوبًا على التحكيم.
ويجمع التحكيم التجاري الدولي بين أربعة أطر قانونية في وقت واحد: القانون المنظم لاتفاق التحكيم، والقانون الإجرائي الذي يحكم سير الخصومة، والقانون الموضوعي الذي تفصل بموجبه هيئة التحكيم في النزاع، وأخيرًا القانون الذي يحكم الاعتراف بقرارات التحكيم وتنفيذها. هذا التداخل، وإن كان يعكس تعقيدًا قانونيًا، إلا أنه في الوقت ذاته يعبر عن مرونة التحكيم وقدرته على التكيف مع مختلف البيئات القانونية. ويثير هذا التعدد في القوانين المطبقة تساؤلات حول معايير تحديد ما إذا كان التحكيم وطنيًا أم دوليًا، وهي معايير تختلف باختلاف النظم القانونية.
وقد تبنت عدة قوانين وطنية – مثل القانون البريطاني والفرنسي والسويسري والتونسي والجزائري والسعودي – معايير متنوعة للتفرقة بين التحكيم الوطني والدولي. وتدور هذه المعايير حول أمرين: مقر النزاع (داخلي أو خارجي)، وجنسية الأطراف (مواطن أو أجنبي). غير أن اختلاف تطبيق هذه المعايير يثير إشكالات في التنفيذ. ففي بعض الدول، إذا كان الأطراف من جنسية واحدة، يُعتبر التحكيم محليًا حتى وإن كان النزاع ذا طبيعة دولية، وهو ما يعطل تنفيذ الحكم وفق قوانينها الوطنية. كما يزداد الأمر صعوبة في الدول غير المنضمة إلى اتفاقية نيويورك، حيث لا تلتزم بالاعتراف بالأحكام الأجنبية، مما يحد من فعالية قانون التحكيم الدولي.
ولفهم تطور هذا الإطار القانوني ، لابد من العودة إلى خلفيته التاريخية، فقد برزت الحاجة إلى قواعد موحدة نتيجة تضارب النظم الوطنية. فجاء بروتوكول جنيف لعام 1923 ممهدًا للاعتراف باتفاقيات التحكيم، ثم تبعته اتفاقية جنيف لعام 1927 التي وسعت نطاقه، وصولًا إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 التي شكلت نقطة تحول محورية ورسخت الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها على نطاق واسع. وفي السياق ذاته، نشأت مؤسسات لعبت دورًا مهمًا، أبرزها محكمة لندن للتحكيم الدولي (LCIA) التي أنشئت عام 1892، وغرفة السويد للتحكيم عام 1917، ثم محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية بباريس (ICC) عام 1923، والتي كان لها إسهام بارز في تفعيل اتفاقيات جنيف واتفاقية نيويورك.
ويبرز في السنوات الأخيرة اختصاص نوعي دقيق في مجال التحكيم مع ثورة الذكاء الاصطناعي ، وهو ما يتطلب عمقاً في الدراسة والتشريع والتفسير المنهجي العلمي المبني على أنظمة متقدمة وسبّاقة في المجال وذلك لتناول المسائل ذات الصلة بهذا المستحدث الذكي الذي سيلجأ يوما للبحث عن حلول بديلة لنزاعاته عن طريق التحكيم وهيئات الخبرة والاستشارة المتخصصة من لدنه.
وخلاصة القول، إن التحكيم التجاري – محليًا ودوليًا – يشكل منظومة قانونية متكاملة تستند إلى القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية، وتعمل في إطار مؤسسات متخصصة، ويقوم على مبادئ السرعة والحياد والمرونة. ورغم ما يواجهه من تحديات، خصوصًا في مرحلة التنفيذ واختلاف تفسير مفهوم "الدولية"، فإنه يظل الخيار الأكثر ملاءمة لتسوية المنازعات التجارية المعاصرة في ظل اقتصاد عالمي متشابك وسريع التغير